مقدمة

إن إشكالية النفس (السلوك) والجسد إشكالية قديمة، استأثرت بالكثير من المفكرين على مر العصور، من فلاسفة، وعلماء التشريح إلى علماء النفس، فعلماء الأعصاب، ولعل ما يستدعي هذا الاهتمام المتزايد والغير المنقطع، هو طبيعة البنية المعقدة للإنسان. ودراستها تختلف تمام الاختلاف، عن دراسة الشجر والحجر، إذ تتداخل فيها محددات طبيعية بيولوجية، مع بنيات اقتصادية، اجتماعية، سياسية، ثقافية، وقيمية، لذلك فمن الصعب، دراسة السلوك البشري، بمعزل عن بعده السيكولوجي، والطبيعي البيولوجي العصبي، بحيث أن ما هو عصبي يمكن أن يكون سببا لما هو سيكولوجي، مثل ما هو سيكولوجي يمكن أن يكون سببا لما هو عصبي. وبالتالي فهذه العلاقة الشائكة هي نفسها موضوع علم النفس العصبي، محاولا فهم ما هو سلوكي، نفسي، معرفي، وانفعالي في علاقته بفيزيولوجيا الدماغ والجهاز العصبي عامة، معتمدا على آليات التصوير الطبي، إضافة إلى ترسانة من الأدوات من السيكولوجية والإكلينيكية - كالمقابلة والاستمارة والاختبارات السيكومترية (بطاريات)، الملاحظة الإكلينيكية - التي تمثل أساس التقويم النفسي العصبي والتي تميزه عن باقي المرجعيات العلمية الأخرى.

الاتجاهات المختلفة في دراسة العلاقة

لكن دراسة هذه العلاقة القائمة بين ما هو عصبي وما هو نفسي ليس حكرا على علم النفس العصبي وحده، وإنما هناك اتجاهات متعددة، تدرسها بمستويات ورُؤًى مختلفة.

الاتجاه الاختزالي

هناك من يتبنى الاختزالية (Réductionniste) والتخصصية الزائدة، أثناء محاولة فهم ودراسة السلوك البشري من منطلق العلاقة بين ما هو بيولوجي عصبي وما هو ذهني، معرفي وجداني، ومن أبرزها:

الاتجاه الاختزالي عند علماء الأعصاب المتطرفين

ويقر هؤلاء أن البنية العصبية هي الأساس والمنطلق الوحيد الذي يمكننا من فهم الوظائف السلوكية للكائن البشري، بمعنى أخر أن السلوك مشروط بيولوجيا وعصبيا. وأن علوم الأعصاب (Les neurosciences) هي التي تمتلك الأحقية العلمية لدراسة هذه العلاقة.

من أبرز علماء الأعصاب الذين تبنوا هذا الطرح:

  • جون بيير شونجو (Jean-Pierre Changeux): يعتبر أن كل نشاط عقلي، كيفما كان سواء كان تفكيراً، أو اتخاذا لقرار، أو انفعالا، أو شعوراً أو وعيا بالذات. عبارة عن نشاط عصبي مشروط فيزيولوجيا.
  • أنطونيو داماسيو (Antonio Damasio): يرى أن أدمغتنا لها استعداد بيولوجي عصبي لمعالجة مختلف السيرورات والعمليات الانفعالية الوجدانية.
  • سام هارس (Sam Harris): جرد الإنسان من إرادته الحرة، وصنفه كمستقبل سلبي خاضع لما هو بيولوجي عصبي محض.

الاتجاه الاختزالي عند علماء السيكولوجيا المتطرفين

هناك اتجاه اختزالي آخر تبناه بعض علماء السيكولوجيا المتطرفين: الذين يزعمون أن ما هو سيكولوجي (معرفي أو وجداني أو سلوكي...) هو الجدير بتحديد السلوك البشري. دون إعطاء أي أهمية للبنية العصبية.

الاتجاه الشمولي

التي اهتمت بالأبعاد الأخرى التي أغفلت عنا التفسيرات الاختزالية. حيث تسعى إلى استنطاق ما يوجد خارج الذات، كما يقول الفيلسوف الألماني ويلهلم ديلتاي (Wilhelm Dilthey) "Nous expliquons la nature, nous comprenons la vie psychique" وهو المسار نفسه الذي يتبعه علماء السيكولوجية العصبية، بصفتهم باحثين أو مقومين سيكوعصبيين، حيث يدرسون السلوكات الناتجة عن الإنسان، من جوانب متعددة بيولوجية، عصبية، سيكولوجية، دون إغفال جوانب خارجية، سوسيوثقافية، اقتصادية ودينية وقيمية أخلاقية...، وينظرون بذلك على الظاهرة الإنسانية نظرة شمولية وكلية (Holistic) وليست نظرة تستهدف وفقط البنية العصبية أو البنية النفسية وحدها.

مستويات التداخل بين البنية العصبية والوظيفة السيكولوجية

1. مستوى الخلايا العصبية

الخلايا العصبية (Neurones) أصغر مستوى في الجهاز العصبي يوضح مستوى التداخل بين الأبعاد المكونة للسلوك البشري. وتقدر بمئة مليار خلية عصبية تقريبا، وتؤكد الدراسات الحديثة في علوم الأعصاب أن الخلايا العصبية تتجدد باستمرار انطلاقا من الخلايا الجذعية (Cellules Souches) تحديدا في منطقة الحصين (Hippocampe).

2. مستوى المشابك العصبية

تتصل الخلايا العصبية مع بعضها البعض بواسطة المشابك العصبية (Les Synapses) وهي منطقة انتقال السيالات العصبية بين خليتين عصبيتين، أو بينها وبين الغدد. وتنتقل المعلومات بين هذه الخلايا بواسطة جزيئات كيميائية تسمى بالناقلات العصبية (Les Neurotransmetteurs).

3. مستوى الجهاز العصبي المركزي

يتكون من النخاع الشوكي ثم الدماغ، هذا الأخير الذي يمثل الجزء الأكبر من الجهاز العصبي، يصل وزنه عند الراشد حوالي 1400 غرام، ويتكون من:

  • النصفان الكرويان: النصف الأيسر (وظائف تحليلية وعقلية) والنصف الأيمن (وظائف حدسية وانفعالية وإبداعية)
  • الفصوص الدماغية:
    • الفص الجبهي (Lobe Frontal): السيرورات الذهنية العليا والسلوك الاجتماعي
    • الفص الجداري (Lobe Parietal): الوظائف الحسية والإدراك البصري والمكاني
    • الفص الصدغي (Lobe Temporal): السمع ومعالجة المعطيات الحسية والذاكرة
    • الفص القفوي (Lobe Occipital): استقبال السيالات العصبية البصرية وإدراكها

المطواعية العصبية

أظهرت الدراسات أن الدماغ يتميز بالمطواعية العصبية (la plasticité cérébrale)، أي قدرته على إعادة التنظيم والتكيف. من الأمثلة على ذلك:

  • تجارب دونالد هيب على الفئران: الفئران التي تعيش في بيئة غنية بالمثيرات تقوى لديهم الاقترانات العصبية
  • تجربة إليانور ماغواير: سائقي سيارات الأجرة أظهروا زيادة في حجم الحصين
  • حالة لوك جونسون: استعادة القدرة على استخدام الأطراف بعد إصابة دماغية

الخلاصة

العلاقة بين البنية العصبية والوظيفة السيكولوجية علاقة معقدة ومتداخلة. لا يمكن فهم السلوك البشري من خلال منظور واحد فقط، بل يجب الأخذ بعين الاعتبار العوامل البيولوجية، العصبية، السيكولوجية، والاجتماعية الثقافية معًا. علم النفس العصبي يقدم منظورًا شموليًا لفهم هذه العلاقة المعقدة.