مفهوم الليونة النمائية
في معرض الإجابة عن التساؤلات السالفة، تجدر الإشارة حينما نتحدث عن علم ما. يجب أن تتوفر فيه مجموعة من الشروط أهمها: وجود موضوع يدرس هذا العلم، ثم منهج يؤطره. وكذا مفاهيم يشتغل عليها. ولعل أهم المفاهيم التي يوظفها علم النفس العصبي النمائي المعرفي نجد مفهوم الليونة النمائية، وقد تم توظيف هذا المفهوم في إطار السيكولوجية المعرفية وتحديدا مع BARBEL INHELDER وذلك بهدف الدفاع عن الطفل المتأخر ذهنيا وبهدف تجاوز المقاربات التي وسمت وضعيته الذهنية بالجمودية وغير القابلة للتعديل والترميم والتحسين.
الليونة النمائية مقابل النضج
لفهم هذا المفهوم لابد من ربطه بمفهوم آخر تبنته المدرسة السلوكية ويتعلق الأمر بمفهوم النضج (La maturite)، حيث ينص هذا المفهوم على أنه بعد فوات الأوان، أوان النضج يصعب على الفرد أن يتعلم أداء معينا وذلك باعتبار أن التعلم في حدوثه يحتاج إلى نضج العديد من المهارات والقدرات التي تمكن من حدوثه.
فتعلم الكتابة مثلا حسب السلوكية يتطلب نضجا على المستوى الفيزيولوجي، بحيث يصبح الطفل قادرا على الإمساك بالقلم إمساكا دقيقا يمكنه من التحكم فيه. أي له قدرا من النضج الحسي والحركي لتوجيه تخطيط القلم، وأيضا قدرا من النضج الذهني، والنضج اللغوي القرائي والكتابي حتى يتمكن من تخطيط ما يريد تخطيطه بالإملاء أو النقل أو الإبداع.
وإذا حصل في سن معين أن تجاوز الطفل مرحلة النضج المناسب للكتابة لسنوات معينة، فإنه عندما يعود لاحقا لتعلم الكتابة سيجد صعوبة كبيرة لتعلمها. وعلى هذا الأساس قالت السلوكية بنقط بداية التعلم (نقطة بداية تعلم الكتابة، نقطة بداية تعلم القراءة، ونقطة بداية تعلم الحساب).
وتأثير هذه النظرية يتجاوز حدها كنظيرية علمية إلى توظيفها في مجالات أخرى كمجال التعليم، بحيث يصبح المتعلم مجرد مستقبل للمعلومات لا يستطيع بلورتها وكذلك تركز على أن هذه التعلمات ترتكز فقط بالطفولة، كما نجد هذا كثيرا في جدارية مدرستنا المغربية "التعلم في الصغر كالنقش على الحجر" بمعنى أن في مدرستنا المغربية خلال سبعينات وثمانينات القرن الماضي التي تعتبر آنذاك أن التعلم يرتبط بالطفولة فقط، وإذا حدث أن تجاوزنا هذه النقطة البداية أو هذه البدايات في وقتها يصعب على المعني أن يتعلم بشكل طبيعي أو تلقائي.
نظرية الليونة النمائية
غير أن هذا المعطى النظري الذي روجت له السلوكية خلال ردح من الزمان سيتهاوى نهائيا مع الطروحات التي أسست لمفهوم جديد هو مفهوم الليونة النمائية، ويتعلق الأمر هنا بما قدمته البياجوية الجديدة وخاصة لدى BARBEL INHELDER التي دافعت عن مفهوم الليونة النمائية مسنودة بمجموعة من التجارب والتي تفيد بأنه لا وجود لما يطلق عليه نقطة بداية التعلم.
فالإنسان يحتفظ دائما بقدرته على التعلم في أي مرحلة وفي أي زمان، سواء كان طفلا أو مراهقا أو راشداً أو كهلا فقدرته التعلمية تظل نشيطة ومفتوحة وفعالة، وبالتالي يبقى الفعل التعلمي فعلا قائما مدى حياة الإنسان. وبالتالي لا يمكن حصر التعلم في سنّ معينة أو اعتباره مرتبطاً بمرحلة زمنية محددة من حياة الإنسان، فالتجربة أثبتت أن لا وجود لنقطة بداية أو نهاية للتعلم.
يتجلّى هذا الأمر بوضوح في برامج محاربة الأمية، خاصة في صفوف النساء المسنات، حيث يستطعن، رغم كبر سنّهن، تعلّم القراءة والكتابة والحساب. هذا المثال الحي يعكس ما يُعرف بمفهوم "الليونة النمائية"، أي قدرة الإنسان على التعلّم والتطور في مختلف مراحل العمر.
الليونة النمائية والتأخر الذهني
حيث ترى انهلدر أن التأخر الذهني يمثل مستوى أو درجة من الذكاء تتميز بعدم إتمام واكتمال بناء العمليات الذهنية، ذلك أن الطفل المتأخر ذهنيا وبفعل عوامل معينة يعجز في لحظة ما عن إتمام بناء عملياته العقلية الضرورية لإنجاز مهمة ما. وهذا بخلاف ما نلمسه لدى المعتوه والأبله اللذان لا يقومان بهذا البناء على الإطلاق.
فالتأخر الذهني حسب انهلدر يعد نوعا من البناء العقلي الإجرائي غير المكتمل. ولذلك اعتمدت في فهمها وتفسيرها على مفهوم الليونة النمائية وهي وضعية ذهنية خاصة ينتج عنها تراجع وبطء شديدين في وثيرة النمو الذهني وفي تحديدها لهذا المفهوم تشير انهلدر إلى أن نظاما فيزيوكيميائيا يكون في توازن خاطئ عندما تنعدم قدراته التعديلية أو تصبح على الأقل بطيئة. وأشارت أنه يوجد لدى المتأخر الذهني شيء شبيه بما يسمى بالتوازن الخاطئ (le faux équilibre) وهو توازن قابل للتصحيح والتعديل لأنه يتجلى فيما تسميه بالليونة النمائية.
توصلت انهلدر إلى وضع خطاطة تصنيفية للمتأخرين ذهنيا وذلك ليس بالاعتماد فقط على المعيار القياسي الاختباري كما توضحه معاملات الذكاء بل بالاعتماد أساسا على مفهوم المرحلة وخصائصها، وهنا نتحدث عن مراحل الأربعة التالية: مرحلة الذكاء الحسي الحركي، مرحلة الذكاء ما قبل عملياتي، مرحلة الذكاء العملياتي ومرحلة الذكاء المجرد. وبإدخالها لمفهوم المرحلة في تصنيف التأخر الذهني تكون قد فتحت إمكانات واسعة للاستثمار النفسي والتربوي اللاحقة لهذا المفهوم.
الاستنتاجات
إنه وبالاعتماد على مفهوم البناء الذهني غير المكتمل (Construction inachevée) الذي قالت به Inhelder لتعريف ظاهرة التأخر الذهني، يمكن التأكيد على الاستنتاجات التالية:
الواقع أن أطروحة انهلدر استطاعت أن تبين أن المتأخر ذهنيا قادر على إتمام وإنتاج نمط من السلوك الافتراضي الاستدلالي، وفقا لمبدأ الليونة النمائية وإن كان ذلك يتم بقدر أقل مما ينتجه الطفل العادي، إذ أنه لا يستطيع ممارسة العمليات الاستدلالية إلا الأحداث والمواضيع التي يدركها بشكل فعلي ومباشر. وهذا المعطى العقلي الجديد يؤكد أن الطفل المتأخر ذهنيا، وخاصة التأخر الذهني الخفيف يمتلك القدرة الذهنية الكافية لبلورة سلوكه العام بشقيه: التمثلي الذي يساهم في بناء الذات العاقلة وارتقاء مراحلها، والتكيفي الذي يطور إمكانية للاندماج في المجتمع وإنشاء شبكة من العلاقات الاجتماعية المناسبة.
ومنه فإن المقاربة المعرفية ترى في اضطراب التأخر الذهني عجزا أو نقصا في الاشتغال المعرفي، ذلك أن القدرات الأساسية لمعالجة المعلومة كالإدراك، والذاكرة، والانتباه تكون محدودة عند المتأخرين ذهنيا مما يجعل نشاطهم الذهني والمعرفي تعوزه الاستمرارية والاستراتيجية اللازمتين لمراقبة وتنفيذ عمليات معالجة المعلومات. بالإضافة و حسب المقاربة المعرفية فإن نشاط المتأخرين الذهنيين يتميز بالسلبية والتي تتمظهر في النقص بل الضعف في استيعاب مشكلة ما، إذ لا يستطيعون تمثلها على مستوى البداية والهدف المطلوب من هاته المشكلة، ويجدون صعوبة في الربط بين الفعل وما قد ينتج عنه من آثار.