مقدمة
إن الحديث عن هذا النوع من الاضطراب النمائي يفرض علينا ألا نغوص في البحث عن مختلف الإرهاصات الأولى للاهتمام به كظاهرة مرضية عبر ما تختزنه كل الحضارات والثقافات والأديان والأنساق الفلسفية من أفكار وإشارات في الموضوع، وإنما سنكتفي بالإشارة إلى اللحظة التي تأسس فيها كهوية ذهنية مستقلة ومتميزة، وذلك مع Jean-Etienne Esquirol، وذلك حين ميز بين التأخر الذهني والجنون وذلك سنة 1818، وقد تعامل مع ظاهرة التأخر الذهني (العته) كحالة من التثبيت والتوقف في النمو (الاحتفاظ بصفات الطفولة)، وليس كحالة من الحالات المرضية الباتولوجية.
إن Esquirol لم يكن فقط أول من حرر مفهوم "العته" التأخر الذهني من انتمائه السابق لمجال الجنون، بل استطاع، وذلك في غياب مرجعيات علمية وسيكولوجية سابقة، بأن يؤكد على الطابع الجوهري والأصيل لظاهرة "العته" التأخر الذهني، واعتقاده بعدم إمكانية التخلص النهائي منه.
وقد شكلت الخلاصات الأساسية التي وصل إليها اسكيرول مرجعا وإطارا نظريا أساسيا وصلبا لكل الأبحاث والمقاربات اللاحقة (المقاربة الطبية، الوراثية، الاجتماعية والمقاربة السيكولوجية) لاضطراب التأخر الذهني.
المقاربة الطبية
يعتقد أصحاب هذه المقاربة أن ظاهرة التأخر الذهني لها أصل باثولوجي مرضي، يرتبط بإصابات وتشوهات وأمراض لها علاقة مباشرة بالدماغ والجهاز العصبي عامة، مما يؤذي تأثيرها إلى نوع من التعطل الكلي أو الجزئي من منظومة الوظائف الذهنية، ويمكن حصر أهمها فيما يلي:
- حوادث الولادة العسيرة
- حالات الاستسقاء الدماغي (Hydrocephalie)
- إصابة الطفل الرضيع ببعض الأمراض الخطيرة بما في ذلك حمى التفويد ومرض التهاب السحايا (Meningite)
- حالات اختناق الدماغ
- إصابة الجنين بعدوى في حالة إصابة الأم بالحصبة الألمانية (la rubeole)
- اضطرابات بعض الغدد كما هو الحال بالنسبة للغدة النخامية والغدة الدرقية
المقاربة الوراثية
حاولت المقاربة الوراثية أن تعطي تفسيرا للتأخر الذهني، خصوصا في أعمال Mendel الذي اكتشف قوانين الانتقال الوراثي في القرن 19. وما نتج عن ذلك الاكتشاف من تحول عميق في تفسير العديد من الظواهر النفسية والاجتماعية المرضية من جنون وانحراف وسلوك اجرامي وتأخر ذهني، وخاصة بعد التعرف على الجينات الحاملة والناقلة للصفات الوراثية (Les chromosomes).
مع مطلع القرن 20، بدأت تظهر الدراسات الأولى، كالدراسات المشهورة التي قام بها جودارد Goodard على مارتن كيلاك الذي تزوج امرأتين الأولى متأخرة ذهنيا، وعندما تتبع نسلها، وجد أنه يتضمن عددا من المنحرفين والجانحين والمتأخرين ذهنيا. والثانية امرأة ذكية وبعد تتبع ذريتها لاحظ أنها لم تنجب أي متأخر ذهني.
وتوصل Goodard إلى أن العجز الذهني أيضا يمكن أن ينتقل وراثيا من الآباء إلى الأبناء شأنه شأن كل الصفات الأخرى وأكد مقابل ذلك استحالة تغيير ما هو وراثي ومن ثمة قال بعدم القدرة على معالجة هذه الحالات.
لكن بعد الثلاثينات من القرن الماضي بدأ التأكيد على العوامل الوراثية يتراجع بشكل ملموس، ويمكن اعتبار ذلك تطورا طبيعيا للأمور، خصوصا ما تمت ملاحظته في و.م.أ لدى التلاميذ حيث أصيبوا بالتأخر الذهني رغم أن آبائهم كانوا أصحاء وأذكياء، الشيء الذي يضعنا أمام مقاربة أخرى وهي المقاربة الاجتماعية.
المقاربة الاجتماعية
إن تراجع كل أشكال التفسير الوراثي للتأخر الذهني، جاء من الميدان التعليمي والتربوي، حيث ما تبين في الولايات المتحدة الأمريكية، أن عددا من التلاميذ كانوا عاجزين تماما عن متابعة دراستهم، وأثبتت مقاييس الذكاء لألفريد بينيه A. Binet ومقاييس ذكاء أخرى (سواء اختبار Binet-Simon أو اختبار Stanford - Binet)، أنهم يعانون من تأخر ذهني، والتحدي العلمي هو أن كل هذه الحالات تنحدر وراثيا من آباء أصحاء وأذكياء. لكن كان هناك مشكل ومرجع سوسيوثقافي وأسري متدهور، خصوصا ما خلفته أزمة 1929 الاقتصادية، والتي كانت السبب الأساسي في انتشار كل أشكال الفقر والبؤس لدى فئة عريضة من المجتمع الأمريكي. وبالتالي ف هذه الحالة السوسيو-اقتصادية الصعبة هي القاعدة المرجعية لظهور التفسير الاجتماعي للعجز الذهني. وبالتالي تم اعتبار أن التربية السيئة قد تؤذي في كثير من الأحيان إلى حالات من التأخر الذهني.
المقاربة السيكولوجية
في هذا الصدد سوف نقف عند مقاربتين أساسيتين: المقاربة القياسية عند الفريد بنيه، والمقاربة المعرفية عند إنهلدر.
المقاربة القياسية عند الفريد بينيه (Alfred Binet)
يعود تطور المفهوم السيكولوجي لظاهرة التأخر الذهني بشكل موازي لظهور مقاييس واختبارات القياس العقلي. ويعتبر Alfred Binet أول من قام بإنشاء اختبارات القياس النفسي العقلي وذلك سنة 1905 بعد إجبارية التعليم في فرنسا، حيث لاحظ المشرفين والمسؤولين عن التربية أن نسبة معينة من التلاميذ لا تتوفر لديهم القدرة العقلية الكافية لمتابعة الدراسة ومسايرة تعلماتهم، الشيء الذي دفع من وزارة التربية الفرنسية إلى الطلب من الفريد بنيه أن يصمم ويبني مقياس عقلي قادر على الفصل والتمييز بين التلاميذ المتأخرين دراسيا لأسباب سوسيو-اقتصادية وأولئك المتأخرين دراسيا لأسباب عقلية (تأخر ذهني)، وذلك بمساعدة سيمون Simon، وبالتالي تقديم أول تصنيف عقلي لحالات التأخر العقلي والذي يعتبر أول تصنيف سيكولوجي للظاهرة.
لذلك قادته أعماله من خلال التطبيقات القياسية التي قام بها إلى اقتراح تصنيف عقلي ثلاثي للأطفال المتأخرين ذهنيا وهو التصنيف الذي تم تبنيه تربويا للفصل بين التلاميذ المتأخرين ذهنيا والتلاميذ المتأخرين دراسيا.
ما نخلص إليه هو أن مفهوم التأخر الذهني ارتبط في إطار المقاربة السيكولوجية القياسية بمفهوم العمر الذهني Age Mentale الذي شكل نقلة منهجية. كما أن هذه المقاربة أمدتنا بأدوات إجرائية جديدة للتصنيف والتشخيص تختلف مرجعيا ومنهجيا عن باقي أدوات التداول الأخرى، كما قامت بترسيم الحدود العقلية الدنيا النهائية للمنطقة الفاصلة بين المتأخرين ذهنيا وغيرهم. فالحدود العليا للمتأخرين ذهنيا تقف من حيث العمر الزمني عند سن الثانية عشرة بالنسبة لذكاء طفل عادي بينما تنحدر الحدود الدنيا إلى الدرجات السفلي للعجز الذهني في اتجاه مستوى الصفر من الذكاء.
المقاربة المعرفية عند انهلدر (Barbel INHELDER)
فالتأخر الذهني حسب انهلدر يعد نوعا من البناء العقلي الإجرائي غير المكتمل. ولذلك اعتمدت في فهمها وتفسيرها على مفهوم الليونة النمائية (أن الطفل له القدرة على التعلم وعلى الانتقال من مرحلة إلى أخرى). وتشير انهلدر إلى أن نظاما فيزيوكيميائيا يكون في توازن خاطئ عندما تنعدم قدراته التعديلية أو تصبح على الأقل بطيئة. وأشارت أنه يوجد لدى المتأخر الذهني شيء شبيه بما يسمى بالتوازن الخاطئ le faux équilibre وهو توازن قابل للتصحيح والتعديل لأنه يتجلى فيما تسميه بالليونة النمائية.
توصلت انهلدر إلى وضع خطاطة تصنيفية للمتأخرين ذهنيا وذلك ليس بالاعتماد فقط على المعيار القياسي الاختباري كما توضحه معاملات الذكاء بل بالاعتماد أساسا على مفهوم المرحلة وخصائصها، وتوصلت إلى ما يلي:
- أ - المعتوه (L'idiot): لا يمكنه تجاوز التكوينات الحسية الحركية السابقة للغة.
- ب - الأبله (L'imbécile): قادر على التفكير الحدسي (التمركز على الذات والمعكوسية دون الوصول إلى الإجرائية).
- ج - المتأخر ذهنيا (le débile): قادر على البناء الإجرائي لكن غير المكتمل، بمعنى العمليات الإجرائية الملموسة وليس العمليات الإجرائية المجسدة أو الشكلية.
- د - المتأخر الذهني البسيط (Arriére simple): قادر على بناء العمليات الإجرائية الصورية وبالتالي قادر على إدراك وبلوغ مستوى الطفل العادي.
إن أطروحة انهلدر استطاعت أن تبين أن المتأخر ذهنيا قادر على إتمام وإنتاج نمط من السلوك الافتراضي الاستدلالي، وفقا لمبدأ الليونة النمائية وإن كان ذلك يتم بقدر أقل مما ينتجه الطفل العادي.