مقدمة
يعود الفضل إلى Eugen Bleuler (1939-1857) الذي اكتشف وصاغ كلمة «التوحد» لأول مرة سنة 1911 في كتابه «Démence précoce ou le groupe des schizophrénies» وذلك لوصف حالة الإنعزال الاجتماعي المميزة للفصام، فكان يقصد بالتوحد الانطواء على الذات الذي يظهر على الفرد المتوحد.
وفيما بعد استعمل Leo Kanner (1894 - 1981) لفظة «التوحد» كمتلازمة syndrome مستقلة للدلالة على التوحد الطفولي المبكر، حيث ميز بين الطفل الفصامي وبين الأطفال المصابين بالتوحد مبينا أن التوحد مرض مرتبط باللحظات الأولى من الحياة.
التوحد الطفولي المبكر
يعرف التوحد الطفولي المبكر كذلك بالتوحد العميق لخصه كانر kanner عام 1943 في لوحة إكلينيكية تتضمن مجموعة من الاضطرابات المميزة والتي يمكن ملاحظتها بعد سن الثانية. وجمع كانر kanner هذه الاضطرابات في سمتين أساسيتين:
- الثبات (immuabilite): وهو ما يفيد مقاومة التغيير والحاجة الملحة إلى الحفاظ على البيئة المحيطة كما هي.
- العزلة (isolement): وذلك برفض وتجاهل كل ما يأتي من العالم الخارجي ومن الآخر.
خصائص توحد كانر
يتميز توحد كانر kanner بوجود اضطرابات على مستوى:
- إقامة العلاقات الاجتماعية: صعوبة في التفاعل الاجتماعي
- التواصل: غالبا ما تكون اللغة غائبة، ويكون التواصل غير اللفظي بدوره غائبا
- المستوى الحسي الحركي: يلاحظ وجود حركات منقولة ميكانيكية عن الآخرين مع حضور إيماءات وحركات غريبة
- السلوك: سلوكات متكررة ونمطية تكون مصحوبة أحيانا بسلوكات عنيفة ضد الذات أو ضد الغير
- اللعب: يغيب اللعب
- الاضطرابات المعرفية: غالبا ما يترافق توحد كانر kanner باضطرابات معرفية وبتأخر ذهني
النظريات المفسرة لاضطراب طيف التوحد
أثارت الدراسات الحديثة العديد من الحجج التي تدعم وجود اضطرابات نور ونفسية تتدخل في تحديد التوحد، وظهرت عدة نماذج نظرية محاولة دمج هذه الاضطرابات مع المظاهر الإكلينيكية للتوحد، إذ هناك من يركز على وجود خلل معرفي أولي مسؤول عن جميع الأعراض المرتبطة بالاضطراب، بينما هناك من يؤكد على وجود اضطرابات معرفية متعددة ومستقلة.
سنعمل على تقديم ثلاثة نماذج نظرية رئيسية وهي:
- العجز في نظرية الذهن (déficit en théorie de l'Esprit)
- ضعف التماسك المركزي (faible cohérence centrale)
- العجز في الوظائف التنفيذية (déficit des fonctions Exécutives)
1. نظرية الذهن (déficit en théorie de l'Esprit)
ركزت الأبحاث في مجال التوحد، طيلة عقد السبعينات من القرن الماضي، على اضطرابات معرفية عامة لتبين بشكل رئيسي التأخر في النمو المعرفي واللغوي، ولكن دون الاهتمام بمستوى الاضطرابات الاجتماعية الخاصة بالتوحد، أي بالاضطرابات الخاصة بالمعارف الاجتماعية.
يوجد في التوحد اضطرابات في التواصل التي تعوق سيرورة الفهم الاجتماعي، أي تحد من تقاسم الفهم مع الآخرين في إطار تواصل اجتماعي. انطلاقا من هذه الملاحظات تم اقتراح العديد من النماذج النظرية لفهم الاضطرابات النور ونفسية وراء هذا العجز الاجتماعي.
تتقاسم جميع هذه النماذج فرضية وجود عجز معين في معالجة المعلومات الاجتماعية، وغالبا ما يعتبر هذا العجز أوليا ويطلق على مجال هذا البحث مصطلح «نظرية الذهن» théorie de l'Esprit
الافتراض الأساسي
يتمثل الافتراض الأساسي لنظرية الذهن في كون المصابين بالتوحد يعانون من عجز، أو تأخر شديد في تطوير «نظرية الذهن» أي القدرة على إسناد الحالات الذهنية، مثل «الرغبات» أو «المعتقدات» إلى الآخرين وإلى أنفسهم.
تعني «نظرية الذهن» القدرة المعرفية على فهم الآخرين ومقاصدهم ونواياهم ومعتقداتهم ومخططاتهم أي القدرة على تمثل حالاتهم الذهنية في إطار علاقات اجتماعية. فهذا التعريف يرتبط بما قدمه جان بياجي Piaget على مستوى نظام التمثلات عندما تحدث عن القدرة على تمثل الأشياء أو الأحداث أو الإجراءات عقليا.
فلا يعني مصطلح «نظرية الذهن» نظرية نفسية و لكن يعني القدرة على تفسير سلوك الآخرين عن طريق افتراضات حالات عقلية للآخر كنوايا وورغبات وهذا ما يسمى بالقدرة النظرية أي التفكير فيما يفكر فيه الآخر، لأنه لا يمكن أن نصل مباشرة إلى ذهن شخص آخر وإلى ما يفكر فيه بالفعل.
لابد من الإشارة إلى أنه لا توجد وسيلة موضوعية للتحقق من محتوى وعي الآخرين أو تقييم دوافعهم ورغباتهم، لهذا يبقى الأمر افتراضيا واستنتاجيا، أي نظريا لا يتعدى مستوى التصورات والمعتقدات والتمثلات الآنية لما قد يكون عليه الآخر، مما يجعل نظرية الذهن أساسية للحياة النفسية لأنها تنشط الانفعالات والوجدان من خلال مهارات التقمص العاطفي L'empathie.
بناء على ما سبق نستنتج أن غياب آلية نظرية الذهن يترتب عنه اضطرابات في النمو الاجتماعي والتواصل الانفعالي تنعكس على التواصل اللغوي واللعب الرمزي، كما نستخلص كذلك أن الأطفال الذين يعانون من التوحد لا يكتسبون هذه القدرة إلا بنسبة جد محدودة دون الوصول إلى مستوى من الفهم يعادل ذلك الذي عند الأطفال العاديين.
2. نظرية ضعف التماسك المركزي (Faible cohérence centrale)
عند الطفل العادي تتحقق معالجة المعلومة من خلال جمع مختلف المعلومات لبناء دلالة كلية في سياق خاص وهذا ما يسمى بالتماسك المركزي (مثلا نتذكر بسهولة مشهد طبيعي لبلد قمنا بزيارته لكن لا نتذكر بالضرورة كل الجزئيات التي تؤثث هذا المشهد).
من السهل أن نتذكر معلومة منظمة عكس تذكرنا لعدد كبير من المعلومات المحتملة. هذه النزعة الكونية عند الإنسان تكون غائبة أو بالأحرى تكون ضعيفة في حالة التوحد.
المتوحد يعاني من ضعف في التماسك المركزي أي أنه يتوفر على مجموعة من المعلومات المعقدة والمعزولة لكن الميكانيزم الذي يجمعها ويدمجها في نظرة متماسكة لا يشتغل عنده.
فالتماسك يكون مضطربا بحيث يعالج التوحديون المعلومات قطعة بقطعة وليس في سياقها العام. هكذا ستكون القدرة على إيجاد معنى شامل للمنبهات مضطربة، ويتم الاكتفاء بها جزئية، أي هناك ميل إلى تفضيل المعلومات المعزولة والجزئية.
فضعف التماسك المركزي هو نموذج نظري مهم بفضله يمكن تحديد بدقة الصعوبات المعرفية عند الأطفال التوحديين كنتيجة لنمط معرفي خاص، بدلا من اعتبارها كاختلالات محددة.
3. نظرية العجز في الوظائف التنفيذية (déficit des fonctions exécutives)
تعني الوظائف التنفيذية السيرورات الذهنية العليا التي تنظم وتراقب الفعل على مستوى الحركة، والانتباه، والتفكير، مما يجعلها قدرات معرفية ضرورية للسلوك الهادف والموجه والمعقد المؤدي إلى التكيف مع المتطلبات والتغيرات المحيطية، بحيث تسمح لنا بتخطيط وتنظيم والحفاظ على حلول ملائمة لتحقيق هدف وكبح استجابة غير ملائمة وتحويل نشاطنا من مهمة إلى أخرى، وهناك اتفاق على الوظائف التنفيذية الآتية: التحويل، والكف، والتحيين، والتخطيط، والذاكرة العاملة، والمرونة المعرفية.
اضطراب هذه الوظائف هو الذي يفسر الأنشطة والسلوكات الجامدة والنمطية وعدم المراقبة الذاتية والتي تظهر في صعوبات تقبل التغيير لدى المتوحد (التفضيل القوي لنفس الشيء - الطقوس - التكرار - عدم المرونة الفكرية).
خلاصة
يعتقد معظم الباحثين المعرفيين أنه لا يوجد نموذج نظري شامل ومرض تماماً، لذا فقد أيد بعض الباحثين فرضية نظرية متكاملة مبنية على أساس اختلالات متعددة. وقد اقترح بالفعل هذه الفرضية (1989) Goodman الذي عرف التوحد بأنه متلازمة تتميز بوجود اضطرابات أولية معرفية متعددة، حيث تنقسم هذه الاضطرابات إلى خاصة ومحددة وإلى عامة يمكنها أن تتعايش بشكل متكامل فيما بينها.
ومن جهة أخرى، يمكن أن تكون العناصر الأساسية للاضطرابات المعرفية في التوحد على مستويات مختلفة. على سبيل المثال على المستوى النوروبيولوجي إشارة خلل وظيفي في الفص الجبهي lobe frontale، لاسيما بعد أن تم وصف العديد من النظم العصبية ذات الصلة أساسا ب «الفهم الاجتماعي» (قشرة الفص الجبهي البطنية cortex préfrontal ventro-médian) وأخرى مرتبطة بالسيرورات المعرفية العامة (قشرة الفص الجبهي الظهرية cortex préfrontal dorsolatéral).
وبالتالي فإن كل النظريات النورونفسية تعتبر أن التوحد ينطوي إما على خلل عام تنفيذي ناتج عن خلل في نظم الشبكات العصبية، أو على خلل اجتماعي خاص متعلق باضطرابات على مستوى الدماغ الاجتماعي أي اضطرابات على مستوى الشبكة العصبية المختصة بتطوير المعلومات ضمن التفاعلات الاجتماعية.